حاوره - فواز السيحاني
"فيكتور هيجو" سألوه يوماً كيف تكتب فناً رشيقاً هكذا؟ أجاب، بكل بساطة:" إنني أكتبُ سطرًا كلّ يوم "،أديب أمريكا "إستانبك" بعد أن انتهى من عمله الروائي الشهير "رجال وفئران"، جاء كلبه وعبث بها ليمزقها بالأكمل، وقف "إستانبك" ينظر إلى كلبه ليقول:"لن أخسر كلباً جميلاً من أجل رواية من الممكن أن تكون سخيفة"،أما لدينا فإن أحدهم كتب رواية في شهر واحد فقط وشكل منها مركزاً للكون وللإبداع، إحداهن أيضاً وصفت عملها الخالد بأنه لم يأخذ حقه حتى الآن وبالرغم من سخافته قد وصل إلى الطبعة الرابعة!، كل ماسبق يجعلني أصاب بوعكة قرائية وذوقية للأعمال المحلية، يجعلني أشك في خبراتنا الإنسانية التي من الممكن أن تصاغ ويخرج منها أدباً واسعاً بحجم مدارات الفضاء، وكل ذلك أيضاً يجعلني استضيف في هذا الحوار د. حمد البليهد الأستاذ المساعد في الأدب الحديث في جامعة الملك سعود من أجل أن نعرف أين يكمن البؤس فيما نكتب؟
*ما الفساد الأدبي الذي يحدث لدينا محلياً، ولماذا نحنُ لدينا قائمة طويلة من الكُتاب الرديئين؟ الكلمات لا تصنع الأدب؟ بل الرؤية هي من تفعل ذلك، د.حمد وبكل اختصار ما الذي يحدث؟
- "مفرداتك ترمي بشرر، ورؤيتك تشاؤمية، وخطابك منفعل بذاته، هذا ما سيقوله لك سدنة البلادة ، المنتفعون من هذا الفساد". والفساد الأدبي بحسب وصفك، فساد كوني يغشى المشهد العالمي، ونحن صفحة من هذا الكتاب
الضخم، وما يتأثر به عنوان الكتاب تتأثر به صفحاته، ولا سيما صفحاته الفارغة من الوعي، وفي قانون جريشام الاقتصادي:"العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق "توصيف لا إضافة عليه. وتسهم وسائل الإعلام بكافة أنواعها في تكريس هذا الفساد، ونشره صباحاً مساء، وحين يعاني القائمون على الشأن الثقافي من ضعفٍ في لغتهم وفكرهم، ستكون النتائج على المدى البعيد
مأساوية، "وقد ضل من كانت العميان تهديه"، فمن يُفسد عقول الناس وثقافتهم أشد جُرماً ممن يفسد أموالهم واقتصادهم، لكنهم يعاقبون الثاني ويكافئون
الأول، والفساد على جميع المستويات منظومة كاملة يشارك الجميع في صنعه بطرق مختلفة، والكلمات لا تصنع أدباً ولا فكراً حين تخلو من التجارب الإنسانية بألمها العميق والكوني، ومن لا يتألم لا يتعلم، فالألم هو من يسمو بالكائن البشري إلى منزلة الإنسان، الألم يحمينا من التشيؤ والاستلاب في زمن موت الروح الإنسانية، وإذا كانت الكلمات أو الأفكار وحدها لا تصنع أدباً، فإن انكفاء لغة الأدب على ذاتها، وعزلتها مع نفسها، لتصبح بلا مرجعية، كل هذا لا يُنتج أيضاً سوى خليطٍ من الهلوسات، وما لم يُعبر الأدب عن ذاته بواقعية، أو عن الواقع من خلال الذات، فسيخلو من الألم، وما يُكتب في المشهد المحلي في وقتنا الراهن إجمالاً، لم يلامس هذا الألم الإنساني؛ لأنها كتابات خاوية من التجارب الإنسانية بمعناها الأعمق، لنقص رافدها المعرفي والثقافي أحياناً، أو لعدم امتلاكها أدواتها الفنية أحياناً أخرى، وفي كل آداب الأمم لم تخلُد سوى نتاج المواهب العظيمة.
*الحياة التي نعيشها الآن، الومضات الإنسانية وغير الإنسانية التي نراها باستمرار مع كل خطوة يومية نقوم بها، مادة خصبة لكتابة العمل الروائي، يحصل في الأعمال المحلية تجاهل كل ذلك والاعتماد الكلي على الخيال ذي البعد القاصر؟
- في إجابتي السابقة أشرتُ إلى مفهوم الأدب في نظر الأعراف النقدية المعتدلة، وإلى عدم توافر الأدوات الفنية، وضعف التكوين الثقافي لكثيرٍ من الكتابات المحلية، وهنا نقصد الكتابات الإبداعية أيَّا كان تجنيسها، والرواية السعودية رغم كل الحواجز التي وقفت في طريقها، استطاعت أن تتجاوز طفولتها وارتباكها، ولكنها مازالت تتعثر أحياناً بخطواتها، وقد اقتربت في بعض نماذجها من حدود الأدبية، وقدم بعضها خطاباً مشرقاً، ودخلت في منافسة مع مثيلاتها في العالم العربي، إلا أن أغلب نصوص الرواية السعودية، وقعت في نسخ الواقع ومسخه أحياناً بسذاجة، وربما تحولتْ إلى وثيقة اجتماعية بلغة تقريرية مباشرة، وتصبح في بعض الروايات خُطباً تُروِّج لأيديولوجيا بائدة، وهي في الكتابات الجديدة إساءة بالغة للغة، تأتي على هيئة بوحٍ ذاتي رغب كتابها في اطلاع القارئ على تأزمهم النفسي، ومعاناتهم الخاصة، فاتخذت من الرواية قناعنا لها. والمواهب الأصيلة هي التي تملك عيناً ثاقبة ترصد ومضات الحياة الإنسانية العابرة فوق خط الزمن، تمُسك بها وتتأملها، ثم تختزنها في تجربتها البصرية، وتملك أيضاً أذناً مرهفة واعية تنصت لنبض الحياة في قلوب الناس، وركضهم لتحقيق بعض أحلامهم المتعثرة، واشتباكهم مع براثن الواقع المتوحش، ثم تتمثل كل هذا الألم الإنساني، ليس لملاحظته والتباكي منه، وإنما لإعادة إنتاجه أدبياً بكتابات موازية، كتابات تجمع بين المعرفة والجمالية، كتابات تغدو ترياقاً يتطهر بها المتلقي من سمومه، ويسترد بعض إنسانيته المستلبة، بغير هذه الأدوات تظل الكتابات المحلية مخدَّرة بالخيال وخطاب النقد المجامل، منخدعة بسراب الحضور
الآفل.
*كيف تقيم المرحلة الحالية، كيف تنظر إلى مستقبل الكتابة، الشباب متحمسون دون تجربة، الكبار ينظرون إلى الأمر ببرودة الخبرة والقارئ متململ من الأعمال المكررة؟
- المرحلة الحالية حائرة بين سُبلٍ لا توصل إلى غاية، منبهرة أحياناً بغبش يأتي من بعيد، تركض بارتباك لإدراك الآخر، ولكنها تنكص دون بلوغه، ثم يخالطها دوار التيه، فتعود تلتمس سبلا أخرى، وحين تفزعها وحشة التشتت تلجأ إلى تراثها بحثاً عن هوية مستلبة فيتنكر لها؛ لأنها فقدت لغة التخاطب معه، تنفض زاد الرحلة فلا تجد سوى فُتات من تعليم مرتبك تجتره بسأم، ثم تغط في سبات، يتهافت الشباب إلى نار احتراقه السريع، لاذ بعض الكهول بصمته ينتظر اليقين، مكتفياً أحياناً بهمس مكرر يسلي به نفسه في الأمسيات الخاصة، ومن يملك منهم بعض النشاط أخذ ينفقه في تلميع بياض عارضيه في حضور الملتقيات الثقافية لعلَّ طرفاً أغر هنا، أو بريقاً إعلامياً هناك.
مرحلة سقط فيها المثقف من برجه العاجي فكانت سقطة الموت، واكتشف الأكاديمي بعض أوهامه فتحول إلى مهرج في قنوات التواصل الإلكترونية، وأحياناً يتحول إلى مروج لبقايا أيديولوجيا آفلة، وتشاجر شيوخ المشالح والعمائم فكان شجارهم ضجراً وفرقة، وانقسم مراقب المشهد أو القارئ إلى مشارك في الضجيج والصخب، بدعوى إعادة إنتاج النص بكثير من الجهل أحياناً، وأحياناً أخرى ينقاد خلف الجوقة مسيساً. مرحلة فيها كثير من الشك، وقليل من اليقين، وحين استشعر (القارئ النوعي) خوفاً من انقراضه بزيف المرحلة فرَّ إلى محميات العزلة.
*أحياناً نراهن على القارئ ونقول بأنه لا زال ذكياً، وأحياناً يحدث العكس لنقول بأنه لم يصل بعد للعمق الذي يستحق من المبدع أن يهتم بعمله، من الجاني في انتشار هذا الكم الهائل من الرداءة، القارئ بسذاجته أم المبدع بعدم مبالاته؟
- أشرتُ قبل قليل إلى القارئ النوعيِّ، وهو قارئ يتجاوز قراءة النص، إلى قراءة الواقع بكل تحولاته ومتغيراته السريعة والعميقة، وهذا القارئ المزود بعين ثاقبة، وفكر تحليلي، ومتابعة دقيقة، لا شك أن هذا النوع من القراء ذكي بالمعنى الشمولي للكلمة، لا يمكن مراوغته، أو تخديره؛ لأنه يمتلك وعياً، ومن يمتلك وعياً مثل هذا القارئ النوعي غير مستهدف من الكتابات المحلية؛ لأنها لا تقوى على استدراجه بخطابها السطحي الغارق في مجاملته وحيرته، وهذا القارئ العصيِّ على التدجين، حين لم يجد ما يطمح إليه في الخطاب المحلي، آثر الرحيل إلى الآخر يتغذى على ما ينتجه، مؤثراً الغنيمة في محميات العزلة كما ألمحت سابقاً، أما النسبة الأكثر فهي من القراء الرائعين الذين يقفزون مع إيقاع الواقع، ويطربون لنشازه، ويرقصون رقصة الاستلاب، - والاستلاب هنا بمعنى: غياب الوعي الذي يجعل المرء يعيش مسيراً بأجهزة التحكم عن بعد- ، ويباركون كل شاردة وواردة، بوصلتهم معطَّلة، فيظنون أنهم في الاتجاه الصحيح، هذا النوع من القراء - وكلمة القراء هنا وصف مجازي - فهم قراء لا يقرأون، وإذا سوّلت لهم أنفسهم فعل ذلك لأسباب خارجة عن الرغبة والإرادة، فإنهم يقرأون ما يحبون ويغذي غرائزهم، ولا أستثني من وصف قلة القراءة، أو القراءة بغير وعي أغلب طلاب الدراسات العليا في جامعاتنا، فضلاً عن طلاب المرحلة الجامعية.
أما من المسؤول عن كل هذا؟ فكلنا نعرف الإجابة، ولكننا لا نملك صرخة الطفل أمام مشهد عري الإمبراطور؛ لأننا نجبن عن تعليق الجرس، ومن يتجاسر
ويحاول، فإن محاولته تصبح رجع الصدى، ومن لا يُنصت للنُذر، فلن" يستبين النصح إلا ضحى الغد"، وغداً يوم آخر.