عبدالكريم محمد النملة
استيقظا في وقت واحد، فغشيه من حلم الليلة الفائتة ما غشيه، كان حلماً قاسياً، نفض رأسه، فتح عينيه جيداً، كان وجهه يعتم.. يكفهر.. الحلم الناشب لا يفارقه ولو للحظة تمناها، يجول في أنحاء نفسه، وفي كل مرة يباغته الحلم.. يقف في طريقه.. يصبغ ألوان الكون كلها، يعيدها لوناً آخر محايداً.
ذهب إلى مدرسته.. وقف أمام تلاميذه.. شرع في إلقاء درسه.. وبغتة.. دهمه الحلم.. لكزه.. حدّق في عينيه، تمثل أمامه عارياً بوقاحة، حاول أن يشيح عن عينيه بوادر ضعف وانتكاس، بحث عن مسار بعيد يعتق به ذاكرته من مخالب الحلم المستبد، سوّل لنفسه دروب التجاء باردة تقيه صهد الحلم المعاند، فطابت نفسه لحظات قليلة أفاق بعدها على صراخ الحلم في أذنيه.. ارتاع.. خفق قلبه بتتابع وهو يرى الحلم يخلع ملابسه ويتجلى.. يمثل له نهايته بتفاصيلها الدقيقة.. بروائحها النافذة.. بدموعها الساخنة.. بترابها.. بظلامها.. بمجهولها..
وقف أمام تلاميذه.. يشحذ نفسه.. يطربها بعناء الآخرين ونجاته دوماً.. يسيل عليها اتهامات الخور والضعف والخوف.. تصدقه نفسه تتقلب مولية عنه، تاركة إياه يخوض في حديث جديد لا يلبث أن يعود خانعاً باحثاً عن نفسه اللوّامة، وحين تستقر نفسه وتهدأ أعصابه يقف ثانية أمام تلاميذه بابتسامة تتنكر له، يكمل درسه بوعورة وشجاعة فيغيب أوار الحلم الدامس، وتحل مكانه أشتات متفرقة منه، منفصلة عن بعضها.. تترامى أمام عينيه، ولأنها غير متصلة ولا تحمل خيط سهم موجع، يتراجع ضعفه ويبرز تفاؤله.
يخرج إلى غرفة المدرسين، يجاذبهم حديثا يصنعه للحظته أمامهم، تنشط موجات دفاع ذاتية تدفع عيونهم عن وجعه... عن حلمه الناشب.. عن تفاصيل تموج بين عينيه.. تطفح على وجهه في كل لفتة.. في كل عطفة ذهن.. يوارب نفسه.. يمد خيط ذكرياته عله يبصر هناك ملجأ أو مغاراً يلوذ به من هذا الهلاك المقتحم.. رغبة ببكاء معتم تحرق جفنيه.. تجس عينيه أطراف لذة بكاء مؤجل.
وكلما قصد درباً خالياً في شعاب نفسه يمرّغ فيه أنفاسه الحارة المتوهجة، وجد الحلم الداكن المتربص في عطفة خفية من عطفات ذاته الداخلية، وحين يجمع أشتاته ويهم بالهرب تنشب أظفار الحلم الدامس الشقي بين عينيه، فيرى الظلام يسد منافذ القلب، ويغرق في تفاصيل الحلم منهكاً مستسلماً، فيشرع الحلم ثانية بتمثيل نهايته بتفاصيل درامية دقيقة، يضيف إليها خوفا يخترم.
خرج من المدرسة، لم تقده نفسه نحو بيته، ركب سيارته.. وحالة من صمت غامق تتشعب في سراديب نفسه، يقود سيارته في طرق.. لاهية.. بعيدة.. غارقة في ذاتها.. في شأنها.. لا تعيره التفاتة عطف أو سؤال.. لا تقف كي يمر.. كي يحكي.. كي يبكي.. كي يسأل.. كي يعود.. كذا الأصوات.. عالية.. سامقة.. لا تطفأ.. لا تخفض.. لا أحد يربت على قلبه.. يحضنه.. يوافقه.. يقشع معه مخالب الحلم الدامس.. الناشب بين عينيه.. يسمع نشيج صدره المتفاقم.. يكفكف دموع قلبه.. يلفه بساعديه.. كي تهدأ أنفاسه الجياشة.. كي يكف هذا السواد المتربص به.. كي يمنحه فسحة نهار آخر جديد.. لا أحد.. لا أحد.. لا أحد.. يطوف شوارع مدينته كأنه يسير فيها لأول مرة، كل شيء.. حوله.. أمامه.. يمنحه نظرة وداع.. يشفق عليه، البنايات التي يمر تحتها تمطره شرفاتها دموعا ساخنة.
ساعات تمر وهو غارق في تفاصيل تفاصيله.. في تفاصيل حلمه.. في تفاصيل الطريق أمامه.. قادته نفسه دون وعي نحو شارعهم القديم.. حين كان طالباً.. دخل الشارع الذي احتضن يوماً غواياته.. الذي قاسمه مشقته ولذته.. الذي مشت فيه أمامه قوافل الحكايات المراهقة.. هنا كان يسير بقدمين حافيتين.. لم يتبعه سوى نزواته لم يقض ضحى يومه هم أو خوف لازب، سادراً في طرقات عابثة.. تنقله الدروب من دروب وضيء يفضي به إلى درب مترف طاغ في الترف.. في الشبق.
طاف بسيارته، بحالة صمت.. وصور ذكريات تتداعى أمامه .. تخلبه.. يسمع أصواتها.. يشم رائحتها يحادث شخوصها، يسائلهم عن نفسه عن صباه عن يومه ذاك أين هو الآن، أين يجده مختبئاً، أين يجده لائذا، كي يحتمي.. كي يدفأ بين ساعاته الصغيرة الناعمة.
وقبل أن يحلم المغيب، وصل بيته يجر قلبه.. فإذا ولج البيت... تمثل له الحلم القاسي رجلاً يصارعه، فلم يجد بداً من مصارعته ومغالبته، شحذ نفسه بما تبقى في قلبه من نزعات البقاء والخلود.. كان ينزف آخر ما في قلبه من قوة، لكن مصارعه كان أشد وأقوى، تصارعا إلى أن غابت الشمس.... فغاب معها في صمت أبدي.